لم يكن العام 2024 عاماً اعتيادياً في تاريخ منطقة الشرق الأوسط؛ بل مثّل محطة حاسمة شهدت تحولات جيوسياسية واستراتيجية أعادت رسم ملامح الصراعات القائمة وأطلقت سلسلة من التغيرات العميقة التي طالت موازين القوى الإقليمية.
وسط اشتداد التوترات والصراعات، برزت غزة كواحدة من أكثر الساحات سخونة؛ مع تصاعدت الحرب الإسرائيلية وارتفاع فاتورة الخسائر البشرية والمادية إلى مستويات غير مسبوقة. في خطٍ متوازٍ مع توجية ضربات قاسية لحركة حماس الفلسطينية، بما في ذلك اغتيال رئيس المكتب السياسي إسماعيل هنيّة، ومن بعده خلفيته يحيي السنوار.
في لبنان، شهد العام واحدة من أكثر المحطات دموية، مع تصاعد الحرب الإسرائيلية على لبنان، واغتيال مجموعة من قادة حزب الله، على رأسهم الأمين العام حسن نصر الله، حيث جاءت الحرب الإسرائيلية في سياق تصعيد واسع النطاق، لتعمّق الفجوة بين الأطراف المتنازعة وتطلق موجة جديدة من الصراعات العابرة للحدود.
اليمن لم يكن بمنأى عن هذه التحولات العاصفة؛ حيث وسّع الحوثيون نطاق عملياتهم، مستهدفين سفناً تجارية في البحر الأحمر، وصولاً إلى إطلاق صاروخ "فلسطين 2" الذي ضرب قلب إسرائيل في تصعيد غير مسبوق، رداً على الحرب الإسرائيلية في غزة. في المقابل، تكثفت الضربات الإسرائيلية والأميركية على اليمن، مما جعل البلاد محوراً جديداً للصراع الإقليمي والدولي.
وبينما كان العام يُلملم أيامه الأخيرة، كان التطور الأبرز في سوريا، حيث شكل سقوط نظام بشار الأسد نقطة التحوّل الأهم، ومع تولي المعارضة زمام الأمور، فاتحةً الباب أمام مرحلة جديدة من المتغيرات الجذرية بعد إنهاء الحرب المستمرة منذ مارس/ آذار 2011.
هذه التطورات وضعت المنطقة بأسرها أمام واقع جديد، حيث لم تعد التحالفات القديمة كافية لضبط إيقاع الصراعات، مما أطلق سباقاً محموماً لإعادة ترتيب الأوراق بما يتماشى مع المتغيرات الميدانية.
وفي القلب من ذلك، بزغت إيران بوصفها "الخاسر الأكبر"، بعد ما مُنيت بها أذرعها الخارجية وحلفائها من هزائم، سواء في لبنان وسوريا، وحتى مع التصعيد الإسرائيلي والضربات المتبادلة خلال العام، والتي تضع طهران -التي فقدت رئيسها إبراهيم رئيسي في حادث تحطم مروحيته في 19 مايو/ آيار ضمن أبرز الأحداث التي شهدتها البلاد- في المخنق، لا سيما أيضاً مع عودة الجمهوري دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، والذي يبدأ مهام عمله رسمياً في العشرين من يناير/ كانون الثاني 2025.
في مجملها، مثّلت أحداث 2024 لحظة فارقة أعادت تشكيل المشهد الإقليمي، وأظهرت بوضوح أن الشرق الأوسط، بكل ما يحمله من تناقضات وتوازنات هشة، ما زال ساحة للصراعات المفتوحة التي لا تعترف بالحدود ولا تخضع للمنطق التقليدي في إدارة النزاعات.
سقوط النظام السوري.. فصل جديد في تاريخ الشرق الأوسط
أحدث التطورات في سلسلة الأحداث الفاصلة التي شهدها العام 2024 كان سقوط النظام السوري في الثامن من شهر ديسمبر/ كانون الأول، لتطوي البلاد صفحة استمرت أكثر من نصف قرن من حكم عائلة الأسد؛ إيذاناً بتحول جيوسياسي عميق في قلب الشرق الأوسط.
انهيار نظام بشار الأسد، الذي جاء نتيجة لهجوم حاسم قادته ومباغت المعارضة المسلحة، لم يكن مجرد حدث سياسي أو عسكري تقليدي؛ بل كان لحظة فارقة تعكس التحولات الكبرى التي تجتاح المنطقة وسط صراعات متشابكة ومصالح دولية متقاطعة.
سيطرة المعارضة على دمشق في هجوم دراماتيكي منظم ومكثف، قادته هيئة تحرير الشام بمشاركة فصائل مدعومة من تركيا، مثّل ذروة التحدي لنظام آل الأسد الذي حكم سوريا لعقود بالحديد والنار، وقد بدأ يتآكل منذ اندلاع الثورة السورية في 2011.
يُمثل سقوط النظام السوري زلزالاً سياسياً يعيد صياغة موازين القوى الإقليمية، بينما استراتيجيات دمشق، التي لطالما اعتمدت على توظيف التحالفات مع قوى كبرى مثل روسيا وإيران، لم تصمد أمام الانقسامات الداخلية والضغط العسكري المتزايد.
وقد تشكلت حكومة جديدة في سوريا بقيادة محمد البشير، بينما تتأهب البلاد لصياغة مشهد جديد، من دستور وانتخابات لإعادة ترتيب البيت الداخلي. بينما تحدها جملة من التحديات والصعوبات، لا سيما بعد التجاوزات الإسرائيلية العميقة في المنطقة العازلة وجبل الشيخ، وتدمير الآلة العسكرية للنظام السوري السابق.
داخلياً، تواجه سوريا -تحت قيادة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني قائد تحرير الشام) حالياً- مرحلة انتقالية معقدة، إذ تقف المعارضة أمام تحديات هائلة لإعادة بناء دولة انهارت مؤسساتها وتشتت شعبها بفعل حرب دامت لأكثر من عقد.. وإقليميًا، يُعيد سقوط الأسد تشكيل خارطة التحالفات والنفوذ في الشرق الأوسط.
في نهاية المطاف، يمثل هذا الحدث نقطة تحول تاريخية، ليس فقط في مسار سوريا، بل في مجمل المعادلة الجيوسياسية للشرق الأوسط. المنطقة تقف الآن أمام لحظة اختبار حقيقي لقدرتها على تجاوز صراعاتها الداخلية وإعادة تشكيل نظام إقليمي جديد يعكس طموحات شعوبها.
حرب غزة.. صراع مستمر وخسائر فادحة في ظل غياب الحلول
منذ اندلاعها في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بعد عملية كبرى نفذتها حماس ضد إسرائيل، تعيش غزة تحت وطأة واحدة من أشد الحروب الإسرائيلية ضراوة في تاريخ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. أسفرت المواجهات عن دمار واسع النطاق وفقدان آلاف الأرواح (حوالي 45317 قتيلاً وفق التقديرات الرسمية حتى 23 ديسمبر/ كانون الأول 2024)، فيما عجزت كافة الوساطات الإقليمية والدولية عن إيقاف دوامة العنف، لتبقى المنطقة على صفيح ساخن دون أفق سياسي واضح.
في ظل هذا المشهد الدموي، مثلت عمليات الاغتيال التي استهدفت قادة المقاومة الفلسطينية تطوراً نوعياً في الحرب. في يوليو/ تموز 2024، اغتيل إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، أثناء زيارته لطهران. ورغم أن تفاصيل الحادثة ظلت مثاراً للجدل، إلا أن العملية حملت رسالة واضحة من إسرائيل مفادها أن قادة المقاومة الفلسطينية مستهدفون أينما كانوا.
لاحقاً، في أكتوبر/ تشرين الأول 2024، شهد قطاع غزة حدثًا مفصليًا آخر بمقتل يحيى السنوار، قائد حماس في غزة، خلال غارة إسرائيلية استهدفت منزله في مدينة رفح. وقد أثارت الحادثة موجة غضب عارمة وردود أفعال متباينة، حيث توعدت الفصائل الفلسطينية بالتصعيد، بينما رأى مراقبون أنها خطوة إسرائيلية لإضعاف بنية المقاومة في القطاع.
تجاوزت آثار الحرب القادة المستهدفين، لتطال البنية التحتية الهشة أصلاً في غزة، حيث دمرت آلاف المنازل، وتعطلت الخدمات الأساسية، وارتفعت معدلات الفقر إلى مستويات غير مسبوقة. إضافة إلى ذلك، استمر استهداف المنشآت الحيوية، بما في ذلك المستشفيات والمدارس، ما فاقم من الأزمة الإنسانية في القطاع المحاصر.
على الجانب الإسرائيلي، ورغم التفوق العسكري الواضح، لم تكن المعركة بلا ثمن. إذ شهد الداخل الإسرائيلي تصعيداً من جانب أطراف مختلفة، بما في ذلك حماس وإيران والحوثيين، شمل إطلاق عديد من الصواريخ وهجمات بطائرات مسيرة.
مع استمرار الحرب للعام الثاني، ظهرت العديد من المبادرات الدولية والإقليمية لإيقاف النزاع، إلا أن جميعها باءت بالفشل. فقد اصطدمت الجهود بتمسك إسرائيل بمواقفها الأمنية، ومطالب المقاومة بإنهاء الحصار والاعتراف بالحقوق الوطنية الفلسطينية.
الحرب الإسرائيلية على لبنان 2024.. تطورات تعيد رسم موازين القوى في الشرق الأوسط
وفي سياق غير منفصل عن التوترات والتطورات العاصفة في الساحة الفلسطينية والحرب المستعرة، شهد لبنان تصعيداً إسرائيلياً واسع النطاق، كانت له منعطفات حاسمة، أكدت على تحول الصراع الإقليمي إلى مواجهة شاملة ذات أبعاد جيوسياسية خطيرة.
في أكتوبر/ تشرين الأول من ذلك العام، شنت إسرائيل هجوماً برياً على جنوب لبنان، استهدف القضاء على البنية التحتية لحزب الله وإضعاف قدراته العسكرية بعد سلسلة من الضربات الاستباقية غير التقليدية، كان أبرزها تفجير أجهزة النداء المحمولة التابعة للحزب، في عملية وصفت بأنها عمل استخباراتي متقدم.
تزامنت هذه العمليات مع اغتيال الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، في ضربة جوية على الضاحية الجنوبية لبيروت، والتي أسفرت أيضاً عن مقتل قيادات بارزة من الحزب مثل علي كركي وإبراهيم عقيل. هذه التطورات جاءت ضمن سياق تصعيد مستمر، شهد استهداف البنية التحتية للحزب عبر غارات إسرائيلية مكثفة على لبنان، أودت بحياة مئات المدنيين وألحقت دمارًا هائلًا في جنوب لبنان. وقد خلفت الضربات الإسرائيلية 3823 ضحية و 15859 جريحاً حتى قبل يوم واحد من إبرام اتفاق وقف إطلاق في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني، الذي واصلت إسرائيل خروقاتها له بعد ذلك.
أدت الضربات لتدمير قدرات حزب الله بشكل كبير. ومع دخول وقف إطلاق النار المؤقت حيز التنفيذ، ظلت ملامح الصراع غامضة، وسط تجدد التجاوزات والخروقات الإسرائيلية.
الحرب أظهرت مدى تعقيد المشهد الإقليمي، حيث تحولت لبنان إلى ساحة لصراع نفوذ دولي وإقليمي، تُعيد صياغة موازين القوى في الشرق الأوسط.
إيران.. الخاسر الأكبر
وإن كان ثمة خاسرين وفائزين من تطورات منطقة الشرق الأوسط، فإنه يُمكن النظر إلى إيران باعتبارها "الخاسر الأكبر" في 2024.في مقاله بصحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية، يقول مدير الأمن الإقليمي في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، إميل حكيم، إن طهران لا شك هي "الخاسر الأعظم" في كل هذه التطورات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط؛ فقد تعاونت مع (أذرعها الخارجية) لتوسيع نفوذها في الدول المنهارة والمجتمعات المنقسمة. وكانت تتوقع أن تعمل هذه الجماعات على تعزيز مصالحها، ولكنها بدلاً من ذلك انجرفت إلى الحروب التي بدأتها.
وبخلاف الضربات القاصمة التي تعرضت لها أذرع طهران خلال العام، فقد شهد 2024 تصاعداً دراماتيكياً في التوترات بين إيران وإسرائيل، مع سلسلة من العمليات العسكرية المتبادلة التي أسفرت عن أضرار استراتيجية للطرفين. تعكس هذه التطورات تفاقم الصراع الإقليمي وتعقد المشهد الجيوسياسي في منطقة الشرق الأوسط.
في الأول من أبريل، قصفت إسرائيل السفارة الإيرانية في دمشق، ما أسفر عن عن مقتل 16 شخصاً.. ورداً على تلك العملية، شنت طهران هجمات على إسرائيل في 13 أبريل/ نيسان، مستهدفة قواعد عسكرية. وفي 19 أبريل، قصفت إسرائيل منشأة للدفاع الجوي في أصفهان بإيران ردًا على ذلك، في ضربة محدودة.
وفي 31 يوليو، كانت عملية اغتيل إسماعيل هنية، في العاصمة الإيرانية طهران، واحدة من بين أبرز المحطات الرئيسية فيما يتعلق بالتصعيد بين إسرائيل وإيران التي تعهدت بالرد. ثم في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول أطلقت إيران أكثر من 250 صاروخاً تجاه إسرائيل، رداً على اغتيال حسن نصر الله وكبار قادة حزب الله وكذلك اغتيال إسماعيل هنية، قبل أن تشن إسرائيل ضربات في 26 من الشهر نفسه على العاصمة الإيرانية رداً على تلك الضربات.
توترات البحر الأحمر.. وكروت "الحوثيين"
شهد العام 2024 تصاعداً في التهديدات الحوثية، التي تجاوزت نطاقها التقليدي في اليمن لتشمل الملاحة الدولية في البحر الأحمر واستهداف مصالح إسرائيلية بشكل مباشر. يأتي هذا التطور في ظل الحرب الإسرائيلية المستمرة على غزة منذ أكتوبر 2023، وهو ما أدى إلى خلق جبهة مواجهة جديدة تمتد من البحر الأحمر إلى قلب إسرائيل.
أصبح البحر الأحمر مسرحًا لتصعيد غير مسبوق في التوترات الإقليمية. حيث كثف الحوثين تهديداتهم للملاحة الدولية من خلال استهداف السفن التجارية وناقلات النفط، وهو ما تسبب في رفع تكلفة التأمين البحري وتعطيل خطوط التجارة الحيوية بين آسيا وأوروبا.
وقد تزامن ذلك مع تصعيد متبادل، شمل ضربات حوثية مختلفة، آخرها الضربة التي استهدفت قلب إسرائيل في ديسمبر/ كانون الأول من خلال صاروخ "فلسطين 2"، بخلاف الضربات الإسرائيلية والأميركية على اليمن.
مشهد إقليمي معقد
ولا يمكن النظر إلى العام 2024 في منطقة الشرق الأوسط إلا باعتباره مرحلة فارقة، مليئة بالتحديات والتحولات الجيوسياسية التي غيرت ملامح الصراعات وخلقت مشهداً إقليمياً معقداً. من تصاعد الحروب في غزة ولبنان إلى انهيار النظام السوري، وصولاً إلى تصاعد التوترات في البحر الأحمر، أثبتت المنطقة أنها ما تزال ساحة مفتوحة للصراعات التي لا تعترف بالحدود أو بالحلول السريعة. إيران، التي كانت اللاعب الرئيس في العديد من هذه الصراعات، كانت من أبرز الخاسرين، حيث تعرضت أذرعها في العديد من البلدان إلى ضربات قوية وأثرت التوترات مع إسرائيل بشكل كبير على استراتيجياتها الإقليمية.
ومع استمرار التحولات الكبرى، يبقى الشرق الأوسط في حالة من عدم الاستقرار، حيث تحتاج الدول إلى إعادة تقييم تحالفاتها وأولوياتها في ظل بيئة سياسية واقتصادية تتسم بالانفجار المحتمل في أي لحظة.
المصدر: cnbcarabia