يفاخر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب بأنه "رجل التعريفات الجمركية"، فخلال حملته الانتخابية انهالت تهديداته بفرض رسوم جمركية على الحلفاء قبل الخصوم، ما دفعهم إلى التحضير لعودته، ووضع ولايته الأولى كأساس لترقب ما يمكن أن يفعله في المستقبل.
ورغم أن الكثير تغير منذ حقبة ما قبل جائحة "كورونا"، لاسيما في الولايات المتحدة، يبقى ترمب على إصراره بأن السواد الأعظم من المشكلات التي تعاني منها بلاده، لديها حل "سحري" يتمثل في التعريفات الجمركية. ما دفعه، خلال أيام قليلة، لتهديد العديد من الدول والاقتصادات بسلاح هذه الرسوم، رغم أن مبررات فرضها تختلف من دولة إلى أخرى.
ظهر هذا الأمر بوضوح من خلال تهديداته للاتحاد الأوروبي بفرض رسوم تتراوح بين 10 و20% على جميع الواردات، في تصريحات كانت مبهمة وغير محددة إلى حد بعيد.
عاد ترمب وكرر التهديد هذا الشهر، لكنه أضاف إليه بعض الإيضاحات. أبلغ ترمب دول الاتحاد الأوروبي بأن عليها تعويض عجز الميزان التجاري من خلال شراء كميات كبيرة من النفط والغاز، أو مواجهة تعريفات على "كل السلع والمنتجات"، وذلك على الرغم من أن أوروبا أكبر مستورد للغاز المسال الأميركي، حيث اتجه أكثر من نصف الصادرات إلى القارة العام الماضي.
أما تهديداته بفرض رسوم جمركية على كندا والمكسيك بنسبة 25%، فلا ترتبط بحجم شراء النفط، بل بمطالب وقف الهجرة غير الشرعية ودخول المخدرات إلى البلاد.
امتدت التهديدات أيضاً لتطال دول "بريكس"، إذ اعتبر ترمب أن سعي هذه الدول إلى إنشاء عملة موحدة تهدد مكانة الدولار، ستترتب عليه رسوم جمركية بنسبة 100%، وهو ما دفع ببعض هذه الدول إلى نفي عزمها إنشاء عملة موحدة.
وبطبيعة الحال، فإن ترمب هدد الصين برسوم جمركية بنسبة 10% تضاف إلى الرسوم الحالية. جمع ترمب في تبريراته للرسوم الجمركية على ثاني أكبر اقتصاد في العالم، بين العجز التجاري الضخم لبلاده مع الصين، بالإضافة إلى "تقاعس" المسؤولين الصينيين في مكافحة مخدر "الفنتانيل".
ردود فعل جاهزة
سارعت أوروبا إلى الرد على تهديدات ترمب المبهمة، إذ اعتبرت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، بعد اجتماع مجموعة الدول السبع في إيطاليا نوفمبر الماضي، أن التكتل على "أتم استعداد لاحتمال تغير الأوضاع في ظل إدارة أميركية جديدة. إذا سعت الإدارة الجديدة لتنفيذ سياسات (أميركا أولاً) في المناخ أو التجارة، فسنرد بإجراءات (أوروبا المتحدة)".
أصبح التكتل أكثر استعداداً لاحتمال دخوله حرباً تجارية مع واشنطن، مع إقراره لأداة مكافحة التعسف التي تمكن التكتل من فرض تعريفات أو اتخاذ إجراءات عقابية أخرى رداً على القيود التي تقف وراءها دوافع سياسية، بالإضافة إلى "لائحة الدعم الأجنبي" التي تبناها أيضاً، والتي تسمح بمنع الشركات الأجنبية التي تحصل على دعم حكومي مجحف من المشاركة في المناقصات العامة أو صفقات الاندماج والاستحواذ في التكتل، من بين تدابير أخرى، وفق "بلومبرغ".
ولكن الرياح عاكست استعداد التكتل، فبمجرد إعلان فوز ترمب، سقطت الحكومة الألمانية، وبات أكبر اقتصاد في الاتحاد في طريقه نحو انتخابات جديدة في فبراير، مع تراجع الدعم لحزب المستشار أولاف شولتس. كما سقطت الحكومة الفرنسية التي قادها ميشيل بارنييه، بعد تحالف بين أقصى اليمين بزعامة مارين لوبان واليسار، على خلفية مناقشات الموازنة. ومن غير الواضح ما إذا كانت الحكومة الجديدة برئاسة فرانسوا بايرو ستنجح في تمرير مشروع الموازنة، أو ستواجه خطر السقوط كالحكومة السابقة، ما يُبقي البلاد والاتحاد عموماً في حالة عدم يقين.
من جهتها، هددت أوتاوا بفرض ضرائب على سلع رئيسية تصدرها إلى أميركا بما في ذلك اليورانيوم والنفط، في إطار ردها المحتمل على تهديدات ترمب.
ولكن "بلومبرغ" نقلت عن مسؤولين مطلعين على المناقشات داخل حكومة رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، أن ضرائب التصدير ستكون الملاذ الأخير، مرجحين أن تلجأ أولاً إلى فرض رسوم انتقامية على السلع المصنّعة في أميركا، وقيود تصدير على بعض المنتجات الكندية.
وفي محاولة لحل المسألة بشكل غير رسمي، سافر ترودو إلى منتجع ترمب في فلوريدا حيث التقى بالرئيس المنتخب، وقدم خطة لأمن الحدود لتهدئة المخاوف. إلا أن ترمب قضى الأسابيع التالية بالسخرية من رئيس الوزراء الكندي، مقترحاً ضم بلاده إلى الولايات المتحدة، لتصبح الولاية 51، رغم أن مساحة البلدين شبه متقاربة.
منذ ذلك الحين، باتت حكومة ترودو مُهددة، إذ استقالت وزيرة المالية كريستيا فريلاند، وأشارت في خطاب استقالتها إلى وجود خلافات حول الإنفاق، وكيفية الاستعداد لحرب تجارية محتملة مع ترمب.
المكسيك ليست أفضل حالاً، ولكنها انتهجت وسيلة مختلفة في التعامل مع ترمب. أبدت إدارة الرئيسة الجديدة كلوديا شينباوم استعدادها لاستقبال مواطنيها المُرحلين من الولايات المتحدة، ولكنها رفضت أن تكون "دولة ثالثة آمنة" للمهاجرين من جنسيات أخرى، وهو الموقف ذاته الذي اتخذته إدارة الرئيس السابق أندريس مانويل لوبيز أوبرادور، التي رفضت اتفاقاً ينص على تقديم المهاجرين من أميركا الوسطى طلبات لجوء في المكسيك، بدلاً من الانتظار حتى وصولهم إلى الولايات المتحدة.
الرئيسة الجديدة تواصلت أيضاً مع ترمب، إذ أشارت في مكالمة مع ترمب أجريت باللغة الإنجليزية، إلى الجهود التي تبذلها المكسيك في مكافحة المخدرات والهجرة غير الشرعية، وهي مكالمة وصفها ترمب لاحقاً بـ"الرائعة".
"بلومبرغ" نقلت عن أشخاص مطلعين، أن المكسيك ستسعى إلى مواصلة إظهار التقدم الذي تحرزه لترمب في وقف قوافل المهاجرين المتجهة شمالاً والحد من عمليات مرور المهاجرين من المعابر الحدودية إلى الولايات المتحدة، فضلاً عن زيادة عمليات ضبط الفنتانيل، لأن إدارة شينباوم تعتقد أن تهديدات ترمب يمكن أن تتضاءل إذا رأى تقدماً في هذه المجالات.
وفي ما يتعلق بتهديده دول "بريكس"، أشارت كلّ من جنوب أفريقيا والهند، إلى أن التحالف لا يسعى لإنشاء عملة موحدة من شأنها إضعاف الدولار، في حين أعربت عدة دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية، عن استعدادها للتفاوض مع ترمب.
نهج جديد للصين
لعل أبرز التهديدات وأكثرها جدية تلك المرتبطة بالصين، فترمب سبق وفرض رسوماً جمركية على بضائع البلاد خلال ولايته الأولى، ما دفع بكين بالرد بإجراءات انتقامية.
ولكن الصين اليوم ليست كما كانت من قبل، وترمب اليوم ليس كما كان من قبل. فالدولة الآسيوية تواجه صعوبات في تنشيط اقتصادها، رغم حزم التحفيز، في حين أن ترمب بات أكثر قوة وخبرة من ذي قبل، وأصبح متسلحاً بأغلبية في مجلسي الشيوخ والنواب، كما أن الصين هي الأمر الوحيد تقريباً الذي يتفق الحزبان عليه.
تشير كاتبة الرأي في "بلومبرغ" كاريشما فاسواني في مقال، إلى أن العام المقبل سيكون عاماً صعباً آخر بالنسبة للصين، خصوصاً في ظل التراجع المستمر في ثقة المستثمرين، وأزمة عقارية متفاقمة، والتضخم في ديون الحكومات المحلية، فضلاً عن التقلبات التي تشهدها الأسواق المالية، بالتزامن مع ضغوط انكماشية، وتوجه مصانعها نحو أكبر انخفاض سنوي في الأرباح في عقدين.
ترى فاسواني أن عودة ترمب إلى الرئاسة قد تضطر الصين إلى الخروج عن النمط التقليدي لسياساتها الاقتصادية. فقد وضع المؤتمر السنوي للعمل الاقتصادي في الصين الأسبوع الماضي "تعزيز الاستهلاك" على رأس أولوياته، ودعا إلى إجراءات محددة تشمل زيادة مدفوعات معاشات التقاعد والتأمين الصحي المدعومة من الحكومة.
كما شرعت البلاد في بذل جهود دبلوماسية منسقة تهدف إلى تحسين العلاقات مع حلفاء الولايات المتحدة مثل اليابان والهند، وتستعد أيضاً لأدوات حرب تجارية محتملة في شكل فرض قيود على صادرات المعادن شديدة الأهمية إلى الولايات المتحدة، كما تعتزم تحصين شركاتها من خلال عدة وسائل من بينها منحها ميزة سعرية في مشتريات الحكومة.
تتراوح الرسوم المهدد بفرضها بين 10 و100%، وهو نطاق ضخم جداً، يصعب من عملية تحديد الآثار الناتجة عنها، حتى على أكثر الاقتصاديين حنكة، خصوصاً أن التفاصيل لا تزال غير واضحة بعد.
ترى "بلومبرغ إيكونوميكس" أن تطبيق الرسوم الجمركية قد يحدث عبر ثلاث موجات، اعتباراً من صيف 2025، لتتضاعف الجمارك على البضائع الصينية ثلاث مرات بحلول نهاية 2026، وهو ما من شأنه أن يفقد الصين ما يصل إلى 83% من مبيعاتها إلى الولايات المتحدة، وفق تحليلات أخرى.
سلسلة من التأثيرات
بغض النظر عن النسبة، فإن فرض ترمب لرسوم جمركية على الحلفاء والخصوم من شأنه أن يهدد بفتح حرب تجارية عالمية، وهو ما قد يلقي بظلاله على الاقتصاد الأميركي أيضاً.
الرسوم الجمركية تعني أن كلفة السلع المستوردة ستصبح أعلى، وهو ما يشجع الشركات المحلية على زيادة الإنتاج، وبالتالي التوظيف، وهو ما يدعم النمو.
ولكن هناك جانب مظلم للرسوم أيضاً، إذ من شأنها أن تؤثر على مستويات التضخم، خصوصاً أنه لا يزال مرتفعاً بشكل عنيد فوق المستويات التي يريدها الاحتياطي الفيدرالي عند 2%.
هذا الأمر قد يدفع الفيدرالي ورئيسه جيروم باول، غير المحبب لترمب، إلى رفع أسعار الفائدة، وهو ما يعكس وتيرة التيسير النقدي التي بدأها، ويمكن أن يؤثر على معدلات الاستهلاك في الولايات المتحدة، والتي تعتبر أساسية لنمو الاقتصاد.
لا يقف التأثير هنا، إذ كشفت الهند عن مخاوفها من الرسوم. إذ أشارت وزارة الشؤون الاقتصادية في تقريرها الاقتصادي لشهر نوفمبر، إلى أن آفاق النمو في الهند للعام المالي 2025-2026 تبدو واعدة، "لكنها لا تزال عرضة لحالات من عدم اليقين الجديدة".
وأضاف التقرير: "سياسات الدول المتقدمة أضعفت عملات الأسواق الناشئة وقلصت من قدرتها على التحرك بحرية"، ما "سيؤثر على قرارات صناع السياسة النقدية في الاقتصادات الناشئة، بما في ذلك الهند".
إضافة إلى الأسواق الناشئة، فإن مستويات الفقر في العالم قد تتفاقم جراء فرض الرسوم وعدم الحفاظ على نظام تجاري مستقر ومفتوح، وفق تصريحات نغوزي أوكونجو إيويالا، المديرة العامة لمنظمة التجارة العالمية.
وأضافت في مقابلة مع "بلومبرغ" في روما: "يجب أن نبقي نصب أعيننا الحفاظ على نظام تجاري مستقر وحر ومفتوح ويمكن التنبؤ به". وأضافت "لا يمكنك إطعام العالم بدون التجارة، هذه هي الحقيقة. واحدة من كل أربع سعرات حرارية يتم استهلاكها في العالم تُتداول تجارياً".
كما حذرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية من أن الاقتصاد العالمي يواجه مخاطر متزايدة تتنوع ما بين توترات تجارية وحروب ومشكلات الديون، ما قد يهدد "القوة الملحوظة" التي شهدها في السنوات الأخيرة.
كبير خبراء الاقتصاد بالمنظمة، ألفارو بيريرا، كتب في تقرير قائلاً إن "التوترات التجارية المتصاعدة والمزيد من التحركات نحو السياسات الحمائية ربما تعطل سلاسل التوريد، وترفع أسعار المستهلكين، وتؤثر سلباً على النمو. وبالمثل، فإن تصاعد التوترات والنزاعات الجيوسياسية ينطوي على مخاطر تعطيل التجار، كما يهدد أسواق الطاقة وربما يرفع أسعارها".
من جهته، قال دان سترويفن، رئيس قسم أبحاث السلع الأساسية لدى "غولدمان ساكس"، إن الضريبة بنسبة 25% على جميع المنتجات المستوردة من كندا، من المرجح أن ترفع سعر الوقود في الولايات المتحدة.
سترويفن أوضح أن التعريفات الجمركية "قد تؤدي نظرياً إلى حدوث عواقب كبيرة جداً لثلاث مجموعات، وهي: المستهلكون، ومصافي النفط في الولايات المتحدة، والمنتجون الكنديون".
أداة تهديد فقط؟
في فبراير 2020، انتقد ترمب عبر سلسلة تغريدات على "تويتر" الذي أصبح بعدها "إكس"، بعض مسؤولي إدارته السابقة لدأبهم على استخدام "ذريعة الأمن القومي" بغرض منع بيع محركات نفاثة إلى الصين. وأضاف: "أريد تسهيل التبادل التجاري مع الولايات المتحدة، وليس تصعيبه... الولايات المتحدة منفتحة على التجارة".
تشير "بلومبرغ" أيضاً إلى أن ترمب كان حريصاً خلال ولايته الأولى على مراقبة ردود فعل الأسواق تجاه تصريحاته، ما دفعه أحياناً إلى تعديل مساره. كما أن إدارته منحت إعفاءات من التعرفة الجمركية لعدد كبير من الشركات الأميركية التي اشتكت من أن الرسوم تشكل تهديداً كبيراً لأعمالها.
والحال، أن تنوع أسباب فرض الرسوم، وضخامة حجمها المقترح، وإمكانية تأثيرها على الاقتصادين الأميركي والعالمي، كلها عوامل تشير إلى أن هذه التهديدات تهدف إلى استخدام الرسوم كأداة تفاوض، مع الحلفاء والخصوم على حد سواء.
هذه الخلاصة أشار إليها سترويفن في تحليله، مشيراً إلى أن تركيز "ترمب على خفض تكاليف الطاقة، يعني أن فرض التعريفات الجمركية على الواردات من كندا خطوة غير مرجحة إلى حد ما".
سترويفن ليس الوحيد الذي خلص إلى هذه النتيجة، إذ اعتبر أعضاء آخرون في الدائرة المقربة من ترمب، الرسوم الجمركية أداة مؤقتة تهدف إلى انتزاع تنازلات من الدول الأخرى، ومن أولئك رجل الأعمال جون بولسون، ومرشح ترمب لوزارة الخزانة سكوت بيسينت.
في المحصلة، فإن ترمب سيفرض رسوماً جمركية. لكن هوية الدول المفروض عليها هذه الرسوم وحجمها، تبقى أسئلة مفتوحة بانتظار تنصيب ترمب، خصوصاً أن تركيزه على ردة فعل السوق، وتعديل مخططاته بما يتناسب معها، يعني أنه لن يلجأ إلى فرض رسوم من شأنها أن تضغط على الاقتصاد الأميركي أو العالمي، أو حتى على التجارة، فبالنهاية "الولايات المتحدة منفتحة على التجارة وتريد تسهيل التبادل التجاري معها"، وفق ترمب نفسه.
المصدر: asharqbusiness