يبدو أن تركيا ستكون الفائز الأكبر اقتصادياً من تغير الأوضاع في سورية بعد سقوط نظام بشار الأسد، إذ ستستفيد من استئناف العلاقات التجارية الكاملة، كما يمكن لقطاع المقاولات فيها الحصول على حصة كبيرة من فاتورة إعادة الإعمار المتوقع أن تصل إلى مئات مليارات الدولارات، فضلا عن شبكة العلاقات في مختلف القطاعات الإنتاجية والتجارية والخدمية التي ستتسع مع عودة الكثير من اللاجئين إلى بلدهم. بينما يتوقع في المقابل أن تنحسر المصالح الاقتصادية الإيرانية وربما تغادر في ظل تبدل الوضع.
أحد الآمال الكبيرة للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وحزبه، العدالة والتنمية، هو أن يسمح سقوط الأسد للكثير من اللاجئين السوريين البالغ عددهم حوالي 3 ملايين لاجئ في تركيا بالعودة إلى بلدهم، إذ قال وزير الداخلية التركي علي يرلي كايا، الأسبوع الماضي، بعد سيطرة المعارضة السورية على حلب، إن 1.3 مليون سوري في تركيا ينحدرون من تلك المدينة وأن الكثيرين "لم يتمكنوا من احتواء حماستهم" للعودة.
وستستفيد تركيا، التي تعاني بالفعل من ارتفاع التضخم والركود، من استئناف العلاقات التجارية الكاملة على طول الحدود السورية التركية التي يبلغ طولها 900 كيلومتر. ويمكن لقطاع البناء التركي، أن يستفيد من فاتورة إعادة إعمار سورية المتوقع أن تصل إلى مئات مليارات الدولارات.
ويُقدر وزير الاقتصاد في ما يعرف بالحكومة السورية المؤقتة (المعارضة في شمال غربي سورية)، عبد الحكيم المصري، حجم التبادل التجاري بين تركيا وما كانت توصف بالمناطق المحررة في شمال سورية قبل هروب بشار الأسد وسيطرة المعارضة على كامل سورية بين 5.5 و6 مليارات دولار. ويلفت المصري في تصريح لـ"العربي الجديد"، إلى أن إعادة إعمار كامل سورية "أمر طويل ومكلف"، مقدرا التكاليف وفق تقارير دولية ودراسات بنحو 450 مليار دولار.
مئات مليارات الدولارت لإعادة الإعمار
تتفاوت التقديرات بين مسؤولين أممين وروس حول كلفة إعادة الإعمار. في العام 2018، قدر مسؤول أممي حاجة سورية إلى 300 مليار دولار لإعادة الإعمار. وفي ديسمبر/ كانون الأول 2021، أشار المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى تقديرات بقيمة 800 مليار دولار كلفة لإعادة الإعمار.
وكانت الأمانة العامة لجامعة الدول العربية قد قدّرت الكلفة بـ900 مليار دولار. وفي السياق، قال مسؤول تنفيذي في إحدى أكبر شركات البناء في تركيا لصحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية، أمس الأول الأحد: "إذا تم تحقيق السلام، فهذه فرصة كبيرة". كما أشار عمر أوزكيزيلجيك، الباحث المشارك في المجلس الأطلسي في أنقرة، وهي مؤسسة بحثية، إلى أنه "بعد السوريين، تركيا هي الفائز الأكبر هنا".
وبينما ينظر البعض إلى أن مكاسب إعادة الإعمار قد تستغرق وقتاَ حتى تستقر الأوضاع، إذ لا تزال ملامح الفترة المقبلة غامضة، فإن هناك مكاسب أخرى سريعة تجارية وخدمية ستجد طريقها إلى مساحات كبيرة من سورية وأسواقها في الوقت القريب، فضلا عن الانتعاش المتوقع مع عودة الكثير من اللاجئين الذين يسيطر عليهم الحنين إلى الوطن، ومنهم أصحاب رؤوس أموال ولهم شبكة علاقات مع قطاعات تجارية وخدمية تركية.
ويرى العامل في قطاع الخدمات عدنان حسن أن العمل في سورية سيكون مغرياً وله عوائد وأرباح خلال الفترة المقبلة، خاصة بالنسبة لقطاعات محددة، كالعقارات والخدمات والتعليم وحتى الرياضة، وأي استثمار بهذه القطاعات، الأرجح أن يكون مضمون الربح وبنسب كبيرة جداً، لأن سورية، وبعد نحو 14 سنة من التهديم، باتت عطشى للتنمية والنمو وتفتقر إلى المؤسسات والشركات والاستثمارات.
ويلفت حسن، العامل في شطر إسطنبول الآسيوي، إلى أن العمل والاستثمار ببقية القطاعات لا يعني أنه خاسر، بل أيضا مضمون الربح، ولكن قد تكون دورة المال فيه أبطأ أو يحتاج لرساميل كبيرة، فعندما نتكلم عن المنشآت الدوائية نلاحظ أن سورية بحاجة ماسة إليها ومثلها الصناعات الغذائية ومستلزمات البناء بواقع زيادة الطلب وتوقع زيادة السكان، وذلك وصولاً إلى الصناعات والاستثمارات التي قيّد نظام الأسد توطينها، سواء في القطاع المالي أو الصناعات المعدنية، متوقعاً أن إغراء العودة والمناخ الملائم داخل سورية هذه الفترة سيشجع عودة السوريين وأصحاب المشاريع والأموال.
يؤكد العامل في قطاع العقارات مدير المبيعات في شركة "امتلاك" أحمد ناعس، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "التفكير والمزاج العام" لمعظم الرساميل السورية وأصحاب الشركات ينصبان على العودة وفتح فروع للشركات داخل سورية، نظراً للمناخ الجاذب الذي يتشكل تباعاً، وربما "الجميع ينتظرون تشكيل الحكومة ووضوح التشريعات والقوانين".
وهكذا بالنسبة لرجل الأعمال علي الجاسم المتخصص في الصناعات الغذائية، الذي أبدى استعداداً للعودة إلى الداخل السوري وتوطين منشأة، نظراً للسوق الواسع. ورغم ترقبه مثل الكثيرين توفر قوانين واضحة وإجراءات جذب رؤوس الأموال، إلا أنه يضع في اعتباره عوامل أخرى مؤثرة في الجدوى الاقتصادية مثل القدرة الشرائية المتراجعة، لكنه رأى أن "عودة الأموال والسوريين، ستحسن الوضع المالي والمعيشي للسكان وتفعّل الأسواق والأعمال على الأرجح".
وفي قطاع الصناعات الغذائية، يشير المستثمر السوري محمد سويد إلى جهوزيته للعودة إلى مدينة حلب مع الاحتفاظ بوجود نشاطه في تركيا، قائلا: "العودة لا تعني أنني سأغلق عملي في تركيا"، مضيفا أن "العمل في سورية رابح وضروري بالنسبة لأهلنا هناك، كما يمكن التشبيك بين تركيا وسورية لزيادة التبادل والصادرات".
بدأت تركيا، التي تشتغل منذ عامين على العودة الطوعية للاجئين السوريين، تسهيل العودة بعد سقوط نظام الأسد، سواء لمن يحمل بطاقة الحماية المؤقتة، أو حتى المخالفين الذين لا يملكون وثائق، بحسب ما نقلت مصادر إعلامية عن دائرة الهجرة، أمس، قائلة إن "العودة متاحة للأشخاص والعائلات الذين يملكون كيملك، أو وثيقة مؤقتة أو بطاقة حماية متوقفة".
وطلبت رئيسة بلدية غازي عنتاب فاطمة شاهين تقديم التسهيلات لتعزيز العودة الآمنة والطوعية للاجئين السوريين، مؤكدة أهمية تهيئة الظروف اللازمة لهذه العملية بالتزامن مع فتح طريق حلب، وقالت خلال مشاركتها في بث مباشر على قناة "Ekol TV" التركية، أمس، إن القناعة العامة لدى الحكومة التركية هي ضرورة تحقيق العودة الطوعية والآمنة. وأضافت أن فتح طريق حلب يمثل خطوة محورية في هذا الاتجاه، ويجب تشجيع الناس على العودة إلى وطنهم مع توفير الظروف المناسبة "ونحن بصفتنا إدارات محلية، نعمل على توفير البنية التحتية واللوجستيات لدعم العودة الطوعية ونجاحها".
علاقات تجارية تركية مع العائدين
بدوره، يري الخبير الاقتصادي التركي أوزجان أويصال أن الفرصة سانحة اليوم لعودة الإخوة السوريين "وتشبيك أعمال وعلاقات مع تركيا"، فالإقامة لعشر سنوات مكنت كثيرين منهم من إقامة علاقات وإنشاء أعمال، وهو ما يزيد فرص تمثيل الشركات التركية بسورية أو زيادة الصادرات.
يقول أويصال إن السوريين "أحدثوا تغييراً في ذهنية العمل في تركيا"، خاصة من خلال الصناعات الغذائية والخدمات، الأمر الذي يزيد الأمل بسرعة تعافي الاقتصاد السوري ونشاط الأسواق، خاصة إذا كانت عودة اللاجئين ورجال الأعمال من دول الجوار والدول الأوروبية.
ويشير تقرير جمعية رجال الأعمال والصناعيين العرب في تركيا إلى أن حجم استثمارات السوريين في تركيا من عام 2010 وحتى 2023 بلغت عشرة مليارات دولار، هذه الاستثمارات لعبت دوراً كبيراً في تنشيط الصادرات التركية.
كما تشير البيانات إلى أن مجموع مشروعات السوريين وصلت إلى نحو 13800 مشروع وشركة، تمثل 30% من مجموع الشركات المملوكة للأجانب، وأوجدت فرص عمل ووظفت أكثر من 500 ألف شخص. وتنوع نشاط وإنتاج هذه المشروعات في مجموعة من القطاعات، وأهمها المنسوجات، البلاستيك، السجاد، الأحذية، السياحة، الزراعة، والثروة الحيوانية. وأشار التقرير إلى أن 59% من السوريين بتركيا تمت تسميتهم ضمن فئة الحرفيين، وهي العنصر الأساس في سوق العمل.
وبحسب تقرير لمركز حرمون للدراسات ومقره إسطنبول، فإن استثمارات السوريين في تركيا تتركز بشكل كبير في المشاريع الصغيرة والمتوسطة، مثل المطاعم والمحلات التجارية والخدمات، ويراوح رأسمال هذه الاستثمارات بين 100 ألف دولار وشركات برأسمال يزيد على مليون دولار، بالإضافة إلى شركات قابضة برؤوس أموال تبلغ عدة ملايين من الدولارات. وتتباين تقديرات حجم هذه الاستثمارات بشكل كبير، حيث تشير تصريحات المستثمرين في غازي عنتاب إلى أن حجم الاستثمارات يراوح بين مليار وخمسة مليارات دولار، في حين يقدر البعض الاستثمارات السورية في تركيا بأكثر من عشرة مليارات دولار.
ويلفت الخبير الاقتصادي عبد الناصر الجاسم إلى أن قطاعات اقتصادية وخدمية قلما تؤخذ بالحسبان خلال دراسة أثر عودة اللاجئين والأعمال إلى سورية، فمثلاً قطاع الصياغة وصناعة وبيع الذهب، وهو من "المناجم المالية" التي قد تحدث فارقاً بالسوق السورية، خاصة بعد هجرة معظم تجار الذهب والمجوهرات إلى تركيا وغيرها في المنطقة وأوروبا. ويقدر الجاسم عدد أصحاب محال وورش صياغة الذهب العائدة للسوريين، وفق بحث أجري منذ سنوات، بنحو 100 صائغ وورشة، موزعون على عدد من الولايات التركية الكبرى، لكن أهمها في غازي عنتاب التي جذبت 53 صائغاً إضافة إلى إسطنبول وولايات أخرى.
القطاعات المالية ضمن الأنشطة المستفيدة
ومن القطاعات التي نبه إليها الاقتصادي السوري خلال حديثه مع "العربي الجديد"، قطاع الخدمات المالية والصيرفة والتحويلات، وهذا أيضاً قطاع يمكن أن ينشط السوق ويجذب الأموال، خاصة بواقع هجرة أكثر من عشرة ملايين سوري توزعوا حول العالم ويحولون لذويهم أكثر من خمسة ملايين دولار يومياً.
بدوره، يقول المحلل الاقتصادي السوري أسامة قاضي لـ"العربي الجديد"، إن عودة الرساميل المهاجرة والعمالة السورية من الخارج من أهم ما يعوّل عليه في البناء والنمو واتساع الاقتصاد السوري، متوقعاً عودة معظم الرساميل السورية المهاجرة، بل وجذب رؤوس أموال جديدة، سورية وعربية ودولية، لأن السوق السورية ستكون جاذبة ومغرية لرجال الأعمال.
وحول أكثر المناطق السورية التي يمكن أن تقصدها الرساميل ورجال الأعمال، يرى أنها ستذهب إلى المناطق ذات الكثافة السكانية بالنسبة للمنتجات الاستهلاكية وأعمال أخرى تستهدف مستوى المعيشة والقدرة على الإنفاق، فضلا عن إعادة البناء في المناطق التي طاولها التهديم. ويضيف أن الانتعاش وتحريك الاقتصاد، سينتقل أينما توطنت المشاريع داخل سورية، لافتاً إلى انتعاش قطاع النقل والخدمات والعبور، خاصة مع الجانب التركي.
ترقب إيراني شديد وانحسار متوقع للمصالح
وفي مقابل الاستفادة المتوقع أن تجنيها القطاعات الاقتصادية التركية من التطورات الحاصلة في سورية، يرى محللون أن إيران باتت ضعيفة. ونقلت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، أمس، عن رئيس هيئة التفاوض السورية بدر جاموس، قوله: "نرى تغييراً هائلاً في المنطقة.. أصبحت تركيا أقوى، وأصبحت روسيا أضعف، وأصبحت إيران ضعيفة.. لكن السوريين هم الذين سيلعبون دوراً كبيراً الآن، وليس كما كانوا من قبل، وسيتعين على الجميع الاستماع إلى صوتنا وقراراتنا".
وتبدو إيران شديدة الترقب لما ستؤول إليه الأمور. وقال مسؤول إيراني كبير لوكالة رويترز، أمس الاثنين، إن طهران فتحت قناة مباشرة للتواصل مع فصائل في القيادة الجديدة في سورية بعد الإطاحة بحليفها رئيس النظام بشار الأسد. وأضاف المسؤول أن هذا يمثل محاولة "لمنع مسار عدائي" بين البلدين.
وبخلاف القلق السياسي، فإن المصالح الاقتصادية الإيرانية باتت مهددة بالتوقف تماماً والخروج من البلاد. ويشير وزير الاقتصاد في الحكومة السورية المعارضة عبد الحكيم المصري إلى تجميد عمل شركة تأمين ومصرف إيرانيين بعد الإعلان عن افتتاحهما قبل أشهر، إضافة إلى عدم العمل بمعظم الاتفاقات السابقة، خاصة المتعلقة باستثمار الفوسفات وشركة الخليوي ومشروع السيارات المشترك. واقتصرت استثمارات إيران قبل هروب الأسد على بعض الأنشطة، مثل الكهرباء والعقارات والزراعة، كما أن التبادل التجاري غير النفطي لم يتجاوز 244 مليون دولار عام 2022 قبل أن يتراجع العام الماضي وهذا العام، بعد برودة العلاقات.
ويضيف المصري أن إيران تحاول اليوم فتح علاقات مع المعارضة، كما صرح مسؤولوها، كي لا تخسر وجودها في سورية واستثماراتها التي تقدر بعشرات مليارات الدولارات، والأهم ديونها على نظام الأسد المقدرة بنحو 50 مليار دولار، جلها دعم مباشر ليبقى على الكرسي وثمن أسلحة ونفط ومواد أخرى.
المصدر: alaraby